“بلدان العالم الثالث ومخاطر حدوث أزمة اقتصادية عالمية، هل من ضرورة لاعادة تكييف الاقتصاد؟”

العرائش أنفو
“بلدان العالم الثالث ومخاطر حدوث أزمة اقتصادية عالمية، هل من ضرورة لاعادة تكييف الاقتصاد؟”
عادل امليلح
طالب باحث بسلك الماستر بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة ـ المغرب
في كتابه ما بعد الرأسمالية المتهالكة يقول سمير أمين؛ ليست الأزمة البنيوية التي تغرق فيها الرأسمالية اليوم من طبيعة انتقالية سيجرى تجاوزها بمرحلة توسع معولم جديد، ما نشهده علامات مؤشر على تهالك الرأسمالية [1]، وهنا لا يبدو كلام سمير أمين بكلام راهني، فنفسه التصور الذي انبثق مع عالم الاقتصاد السياسي كارل ماركس، الذي يشكل الأساسي الأيديولوجي والأب الروحي لكل تحليل مناهض للرأسمالية وداعم للاشتراكية كنهج لما بعد الرأسمالية، ومن الطبيعي أن الرأسمالية عبر تاريخيها شهدت عدة أزمات حاولت التكيف معها عبر عدة إجراءات، انبنت أساسا على التقدم التقني الذي ساهم في توسيع حركة رأس المال، وبالتالي توسيع من دائرتي الإنتاج والاستهلاك الرأسمالي، وقد حددها عالم الاقتصاد الروسي كوندراتيف في 8 دورات، تتواتر فيها مراحل الركود والانتعاش الاقتصادي، تبدأ من سنة 1780 إلى حدود 1996 [2]، لكن الميزة الفارقة بين هذه الدورات هي أن كل دورة انتعاش موالية تكون أقصر زمنيا من السابقة لها، والعكس بالنسبة لدورات الركود، إن هذا الواقع يؤكد شيئا بالغ الأهمية، وهو أن الرأسمالية عبر تاريخيها تنحو نحو تقليص فترات الانتعاش لصالح فترات الركود، مما يعكس حالة انهاك مستمر وبنيوي في النظام الرأسمالي العالمي، وفي غياب البدائل الموازية يصبح العالم أمام تحديات كبيرة أبرزها دخول مرحلة ما يمكن وصفه باقتصاد الأزمة أو رأسمالية الأزمة، وأن مفاهيم النمو والانتعاش الاقتصادي ستفقد بريقها في السنوات القلائل القادمة. وبما أن كل التحليلات اليوم حتى أكثرها تفاؤلا، تنحو نحو حدوث أزمة اقتصادية كبرى، فالمخاطر أصبحت كبيرة جدا، وأن الحرب الروسية الأوكرانية لا يمكن أن تفسر ما يقع اليوم باعتبارها نتيجة وليست سببا، فهي ليست سوى مسمار في نعش مطرز بالمسامير بعضها طاعنة في الصدأ، فالحرب على العولمة انطلقت من الرحم ذاته الذي أنتج هذه العولمة، أي الولايات المتحدة الأمريكية التي باتت تنهج الحروب التجارية في مواجهة العديد من الدول أبرزها الصين، ومن الواضح أن ما يحدث اليوم يبين بالملموس حجم التناقض الرهيب الذي باتت تعيشه الرأسمالية، التي تفترض أن النمو يرتبط أساسا بتوسيع دائرة الاستهلاك العالمي الذي يحرك عملية الإنتاج الرأسمالي، بينما في الواقع ينجم عن ارتفاع معدلات التضخم تراجع في القدرة الشرائية، وبالتالي تراجع في العرض، أي الإنتاج مما يسهم في ركود اقتصادي كبير [3]، وبما أن التضخم لن يتوقف حتى لو توقفت الحرب الروسية الأوكرانية، وربما حتى لو عادت الأمور لما كانت عليه قبل الجائحة، إننا أمام مرحلة تتسم بالمخاطر الكبيرة، إذ تتحول العملية الاقتصادية برمتها إلى أشبه بنشاط المضاربة في بورصة العملات الرقمية حيث كل شيء يتقلب في فترات وجيزة جدا، كما أن الوضع الاقتصادي الذي يسير فيه العالم اليوم لن يكون سهلا تجاوزه خلال العقدين القادمين من الزمن، خاصة وأن الاقتصاد العالمي منذ سبعينيات القرن الماضي كان يعيش حالة من الركود الطويلة بفعل أزمة النفط، ويتجلى ذلك بقوة في تباطؤ النمو العالمي، أذكته أحداثا بارزة أهمها الأزمة المالية لسنة 2008 وانتشار الجائحة في 2020 مما عطل سلاسل الإنتاج العالمية.
إن هذه الوضعية لن تؤدي بدول الجنوب إلا إلى المزيد من الاقتراض، وبالتالي المزيد من السياسات التقشفية بالنسبة للقطاعات الاجتماعية مما سيخلق العديد من المشاكل المزمنة التي قد تتسبب في انفجارات اجتماعية رهيبة، بالإضافة إلى تنامي الصراعات السياسية التي من شأنها أن تزيد من تكاليف التسلح بالنسبة لهذه الدول، وبالتالي إن منطق إدارة العمليات الاقتصادية الذي ساد سابقا أصبح متجاوزا في ظل الأوضاع الحالية، فهذا الوضع سينجم عنه عدة صراعات عسكرية قد تؤدي لحرب عالمية فتاكة، خاصة وأن الحروب الكبرى هي دوما مرتبطة بالتغيرات التي تطرأ على النشاط الاقتصادي، فاحتدام التنافس الاقتصادي وكذا تزايد الرغبة في ضمان مناطق النفوذ الضرورية للأمن الاقتصادي القومي للدول، ينجم عنه صراعات وصدامات غالبا انتهت إلى الاحتكام إلى القوة العسكرية، فبينما تتزايد طموحات القوى الدولية الجديدة لفك الارتباط بالهيمنة الغربية، تتزايد رغبة الغرب في إعادة ترتيب بيت الدار والحفاظ على استمرار الهيمنة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وأمام هذا الوضع ستعود الامبريالية بوجهها القبيح، وبالتالي لا شيء مضمون في مثل هذه الأوضاع التي تتطلب الحكمة والحيلة في التعاطي مع التحولات العالمية التي تسير نحو تزايد حدة التوترات السياسية في مقابل تزايد حدة الأزمات الاقتصادية، ومما لا شك فيه أن هذه القوى المتنافسة ستعيد رسم خرائط التحالفات العسكرية والسياسية وكذا ستعيد تحريك مناطق الصراع الدولي في إطار عمليات انهاك طويلة الأمد غرضها الاحتواء، وعليه ستنتج العديد من المصاعب التي ستكون لها نتائج وخيمة على بلدان العالم الثالث، كما أن التفضيلات السابقة لم تعد ممكنة، وما يؤكد كذلك تنامي هذه المخاطر هو تزايد بؤر الصراع الدولي في كافة أرجاء العالم، أمام غياب لغة الحوار والتفاوض بفعل خروج عملية التدبير الاستراتيجي للأزمات من قبضة المؤسسات الدولية، وبما أن الغرب ليس مستعدا للقبول بعالم متعدد الأقطاب فإنه سيعمل على اثارة الفوضى الخلاقة في كل مكان في اطار الحرب الناعمة مع الخصوص دون استبعاد الصراع المباشر، خاصة في آسيا وافريقيا وكذا أمريكا الجنوبية ودول أوربا الشرقية لقطع الطريق على التوسع الاقتصادي والعسكري الصيني والروسي.. ناهيك عن الحركات الإرهابية وكذا تصاعد شركات المرتزقة التي ربما تشكل النسخة المستحدثة من الحركات الجهادية خاصة في أفريقيا.
ومن هذا المنطلق فإننا نطرح خيار الاقتصاد المكيف كنهج اقتصادي غرضه الأول والأخير، خفض من حدة التأثيرات المترتبة عن التحولات التي يعرفها الاقتصاد العالمي، خاصة في البلدان النامية التي يكون التأثير فيها مدمرا وكبيرا جدا، والتي تجد نفسها مرهونة لقرارات خارجية غير منصفة بفعل الديون التي ليست سوى عملية استنزاف وإنتاج الأعطاب، فهي تكرس الحلول التقنية والسياسات البيروقراطية التي تعمل على تجاهل عمق المشاكل وطبيعة الخيارات السياسية والاقتصادية، وبدل أن تتعاطى معها بمنطق التغيير، تتعاطى معها بمنطق الإصلاح الفارغ من أي مضمون سياسي واقتصادي، الذي لا يحل المشاكل الجوهرية بل، بالعكس يساهم في تراكمها الكمي وتزايد تأثيراتها الوظيفية ومخاطرها البنيوية، فالعديد من الدول التي نهجت ما يسمى بسياسة التنمية الممولة بالقروض الخارجية تواجه اليوم مشاكلا عويصة، بل إن بعضها مهدد بالمجاعة والإفلاس، وهذه نتيجة مخزية لما انتهت إليه التنمية بمعاييرها الكونية التي لم تكن سوى عملية ادماج قصري لبلدان العالم الثالث في دائرة الرأسمال الدولي.
فما السبيل إذا لمواجهة هذه التحديات؟
يتمحور مفهوم الاقتصاد المكيف كنمط يهدف إلى الحد من المخاطر الناجمة عن الاهتزازات التي يعرفها الاقتصاد العالمي، وهو ليس بديلا عن الاقتصاد الرأسمالي الذي تعمق في العديد من القطاعات ببلدان العالم الثالث، خاصة في القطاع المالي والمصرفي، وتقدم بشكل كبير في القطاع الصناعي والخدماتي في العديد من دول الجنوب، وعلى أي، ننطلق هنا من فرضية أن هذا الاقتصاد يقوم على خمسة محاور مركزية:
ـ الأول: ضرورة الحد من حدة الترابطات بالاقتصاد العالمي من خلال ضمان حدا من المرونة في تخفيف المخاطر الخارجية، وكذا الحد من عمليات اللجوء للاقتراض الخارجي.
ـ الثاني: إعادة ترتيب المتغيرات الاقتصادية من خلال تحديد طبيعة الأنماط الاقتصادية من الأكثر استقرارا (أي تتأثر بشكل ضعيف اتجاه التحولات الخارجية) إلى الأكثر تغيرا (التي تتأثر بشكل كبير وسريع بالتحولات الخارجية). وذلك من خلال توجيه الاستثمارات نحو الأنشطة الحيوية الأكثر استقرارا.
ـ الثالث: التعامل مع الاقتصاد بمنطق الأزمة الدائمة من خلال التركيز على الأنشطة ذات الأولوية والضرورية للأمن القومي للبلد.
ـ الرابع: ضرورة ادماج بعض العناصر الاشتراكية في النمط الرأسمالي، خاصة في النشاط الفلاحي والمنجمي.
ـ الخامس: إعادة النظر في آليات التعاطي مع بعض القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، مثل الفوسفاط في المغرب والغاز الطبيعي في الجزائر والنفط في ليبيا ودول الخليج والذهب في السودان… وذلك بغرض الدفع بهذه القطاعات لضمان توازن واستقرار في ميزان المدفوعات وجلب مكاسب دولية استراتيجية.
غير أننا نرى أن هناك العديد من الإجراءات التي ينبغي القيام بها بهدف ضمان ذلك ولو بحد أدنى، ونفصل في هذه الإجراءات بين ما هو سياسي وبين ما هو اقتصادي:
فمن الناحية الاقتصادية يتطلب الأمر القيام بما يلي:
ـ التخفيض من حجم الاستيراد من خلال الاتجاه وبشكل مستعجل نحو تشجيع الصناعة الداخلية بهدف تحديد الحاجيات التي يمكن انتاجها داخليا والاستغناء عن استيرادها من الخارج، مثلا في حالة المغرب الذي استطاع أثناء الجائحة توفير الاكتفاء الذاتي في العديد من المستلزمات الطبية كالكمامات الواقية.
ـ الاتجاه نحو تعدد الشركاء التجاريين خاصة فيما يتعلق باستيراد المواد الحيوية ذات الأولوية كالحبوب والمنتجات الغذائية.
ـ منع تصدير المواد الحيوية التي يمكن أن ينتج عن تصديرها مشاكل داخلية بغرض ضمان توازن في أثمنة الأسواق الداخلية، وبالتالي توازن في القدرة الشرائية للمواطنين.
ـ رفع تكاليف الاستيراد على الموردين بغرض حماية الأسواق الوطنية فيما يتعلق بالمنتجات الحيوية.
ـ إعادة مراجعة كل اتفاقيات التبادل الحر التي يمكن الاستغناء عنها، أو التي يمكن تعويضها من خلال شركات تجارية أو أنشطة اقتصادية بديلة غير ملزمة.
ـ تشجيع استهلاك المنتوجات المحلية.
ـ تكثيف شبكات النقل الجماعي بغرض خفض عملية استهلاك الوقود.
ـ الإسراع في وضع سجلات اجتماعية لفائدة الطبقات الهشة والضعيفة.
ـ ينبغي مراقبة الأنشطة المصرفية وتقين المضاربات الخارجية للنشاط المصرفي بالإضافة إلى التخفيف من شدة التركيز المصرفي…
بينما من الناحية السياسية يتطلب الأمر القيام بما يلي:
ـ إعادة الاعتبار لدولة الرعاية الاجتماعية والتقليص من الإجراءات النيوليبرالية التي تعطي صلاحيات واسعة للخواص، أي إعادة الاعتبار للمعطى الاجتماعي على حساب المعطى الربحي.
ـ امساك الدولة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للعصا من الوسط، في خضم التحالفات الدولية الجارية والمرتقبة سواء كانت كونية أو إقليمية، وعدم الانسياق خلف أي تصور منفرد في تدبير الصراعات الدولية، فمثلا ينبغي تجنب اتباع الغرب في صراعه مع روسيا والصين والعكس صحيح بعدم الانخراط المباشر والمعلن في أي تحالف…
ـ استعادة دور الدولة في العديد من المجالات كالفلاحة والطاقة والصحة والتعليم.
ـ الحد من تضخم المؤسسات السياسية وتقليص حجمها والتركيز على الفعالية بدل الكم، بالإضافة إلى توطيد عنصر الحكامة في مراقبة عمليات التسيير والتدبير.
ـ الاتجاه نحو إعادة توطين الانفاق العسكري من خلال التركيز على الأبعاد الاستراتيجية في هذا الانفاق والبحث عن سبل محلية لتوفير بعض الحاجيات العسكرية في إطار العمليات الممكنة.
ـ إعادة النظر في الأنظمة الضريبية والتحفيزية بالنسبة للشركات الوطنية والخارجية.
ولعل ما نقترحه هنا هو اقتصاد أزمة مستمرة ينطلق من قاعدة واضحة وهي قدرة الدولة على ضمان حاجياتها الاستراتيجية لمدة قد تتجاوز على سبيل الافتراض أربع سنوات، وذلك من خلال حماية الأمن الاستراتيجي لبلد ما، متمثل أساسا في:
ـ الأمن الغذائي: لا بد من الحد من السياسات الزراعية الرأسمالية التي تعمق الفوارق وتتسبب في مشاكل غذائية كبيرة، وذلك من خلال تقنين عمليات الأنشطة الزراعية التصديرية، بالإضافة إلى رد الاعتبار لدور الدولة في النشاط الزراعي.
ـ الأمن الطاقي: على الدولة أن تضمن وبشكل مستدام حاجياتها الطاقية الاستراتيجية على مدار أربع سنوات كما يتوجب عليها استعادة دورها في مراقبة المنافسة ودعم مهني وشركات النقل الجماعي.
ـ الأمن المالي: ينبغي إعادة النظر في علاقة النقد المحلي بالنقد الأجنبي، من خلال إعادة النظر في عمليات التعويم النقدي، وبغرض التخفيف من حدة التأثيرات التي قد تنتج عن التغيرات المتسارعة في النقد العالمي خاصة مع تبني بعد البنوك المركزية رفع نسب الفائدة، والحد من الانتشار السريع للأحداث المالية القصوى، بالإضافة إلى التحرر من سطوة العمولات الكلاسيكية من خلال التوجه نحو التعامل بالعملات المحلية قدر الممكن وتقييد عملية الاقتراض من المؤسسات الدولية.
ومن هنا فإنه بغض النظر عن الإجراءات التي سيتم تبنيها لمواجهة المخاطر المقبلة وهي حتمية وتحدي كبير ينبغي التعاطي معه، فإنه يبقى من الضروري إعادة النظر في أنماط الارتباطات بالأسواق الخارجية والحد من المخاطر الناجمة عن هذه العلاقات، والتي لن تكون عن طريق التضخم والقروض، بل عبر نهج سياسة اقتصادية هيكلية شجاعة مهما يكن الثمن الذي ستتطلبه، صحيح أن الرأسمالية تتكيف مع أزماتها، لكنها لا تحل المشاكل التي تترتب عنها، والعولمة ما هي إلى نمط من أنماط الامبريالية التي تعمل على الادماج القصري للاقتصاديات الهامشية في الاقتصاد الرأسمالي، بهدف إعادة تقسيم وتخصيص العمل دوليا.
المراجع:
[1] ـ سمير أمين، ترجمة فهيمة بدر الدين وسناء أبو شقرا (2003)، ما بعد الرأسمالية المتهالكة، الطبعة الأولى، دار الفرابي بيروت لبنان ص 150.
[2] ـ بيتر تيلور وكولن فلنت، ترجمة عبد السلام رضوان واسحاق عبيد (2002)، الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر، الاقتصاد العالمي، الدولة القومية، المحليات، الجزء الأول، الطبعة الأولى، سلسلة عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون وللآداب، الكويت ص 41.
[3] ـ أرنست فولف، ترجمة عدنان عباس علي (2016)، صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية، الطبعة الأولى، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب ـ الكويت، ص 150