ads980-90 after header
الإشهار 1

مذكرات معلم في الجنوب المغربي: قصة حب معلن أمام الملإ

الإشهار 2

العرائش أنفو

مذكرات معلم في الجنوب المغربي: قصة حب معلن أمام الملإ

أحمد رباص

عادة ما يلجأ الكثير من الناس، في نهاية يوم عمل أو عطلة، إلى غرفهم الصغيرة، ويأخذونَ زاويةً خاصةً بعيدةً عن الصخب والضوضاء، واضعين أمامهم مفكرة صغيرة، وبين أناملهم قلم ، ويبدأونَ بتدوين تفاصيل يومهم الشاق، وساعاتهم الماضية بشغفٍ طفولي، وشفافيةٍ إنسانية كاملة، وقد لا يكون المرء صريحاً مع أي شخص مثلما يكونُ صريحاً مع دفتر يومياته، لأنه المأوى الوحيد لهم، وحافظ أسرارهم.

وبالرغم من أنَّ بعضَ الناس لا يكتبون مفكراتهم اليومية، إلاَّ أنها تظل جزءاً مهماً في حياة أولئكَ اللذينَ يسجلونَ حياتهم على الأوراق، والسطور، كما أنَّ الكثير من الأشخاص حولَ العالم يحاولون أن يكتسبوا هذهِ العادة ولكنهم يفشلون، ومع الوقت يجدون أنفسهم غير قادرين على الالتزام بالجلوس كل يوم مدة من الزمن لكتابة ما وقع.

قد أكون كاذبا إن قلت لكم أنا واحد ممن كانوا شديدي الحرص على كتابة مذكراتهم يوما بيوم؛ ذلك لأني شديد الثقة في ذاكرتي ولست من يؤمنون بمقولة “ينسى الراس ما ينسى الكراس”، دون أن أقلل من أهمية وفائدة تدوين الذكريات من يوم لآخر. ذكرياتي مطبوعة على جسدي وموشومة على نفسي، فلماذا أكون بحاجة إلى تدوينها لحظات بعد وقوعها؟

في أخر حلقة خاصة بآيت حمو أوسعيد، تحدثت عن قصة حب انطلقت من لحظة نبادلت فيها النظر مع أم أحد تلاميذي الذين كنت معلمهم في اللغة الفرنسية والحساب خلال سنتين، ثم عشت باقي فصولها في انفصال تام عن العشيقة محاولا التعويض عن غيابها بالإكثار من التفكير فيها والحديث عنها لشابين من أقاربها. كنت أعلم أنها لن تجرؤ على أن تقوم ليلا بزيارتي في السقيفة الطينية الكبيرة المُنَصِّفة للمسافة الفاصلة بين المجمعين، لسبب واحد وهو كوني لا أطيق العزلة عن الناس بحيث لا أنفصل عنهم إلا عندما أريد الخلود للنوم والراحة.

مشروع زواجي بالأم المطلقة صار موضوع أحاديث القاعدين والركبان. المعلمتان المتحدرتان من مراكش أصبحتا على علم بالأمر، وكيف لا تعلمان به وهما تسكنان في مجمع آيت حمو أوسعيد وتجلسان مع نسائه سواء في بيتهما أو خارجه؟ إحداهما من قاصرات الطرف، متحجبة تمنع عن نفسها مصافحة الرجال والتحدث معهم، بينما يبدو لياس المعلمة الأخرى محتشما بلا إفراط أو تفريط، وتسمح لنفسها بالتكلم مع الرجال ممن تعرف ومصافحتهم. تغطي رأسها بفولار مزركش لا يلبث أن ينزاح إلى مستوى الرقبة ليكشف عن شعر ذهبي، حريري الملمس، يهتز لأخف هبة نسيم.

علاقتي بالمعلمتين كانت مبنية على الاحترام اعتبارا لكونهما زميلتين مقبلتين على الزواج من شابين يعملان في قطاع البناء. في الشهر الثالث من سنتي الأولى بمدرسة آيت حمو أوسعيد، جاء خطيب المعلمة غير المتحجبة في زيارة من أجل النظر في وجهها العزيز. تعرفت عليه في المدرسة، وجرت بيننا دردشة أنهاها بأن وجه لي مباشرة طلبا استعطافيا يلتمس فيه من شخصي أن أرد بالي للمعلمتين. طَمْأَنْتُهُ وقلت له “الدنيا هانية وما كاين علاش يخافو”.

في أحد الأيام التي أعقبت عودة المقاول من حيث اتي، كنت متواجدا كالعادة مع الأطفال في المدرسة منذ الساعة الثامنة صباحا. عندما حلت الساعة العاشرة، سمحنا للتلاميذ بالخروج للاستراحة. في هذه اللحظة بالذات، وصلت المرأة المسؤولة عن إطعام التلاميد وهي تحمل أقراص الخبز على ظهرها، والطنجرة على رأسها. ساعدها الأطفال على التخلص من حملها الثقيل ووضعوه فوق الأرض.

تنفست الصعداء ثم جلست وبدأت تقطع الخبز إلى أجزاء مثلثة الشكل. وقف التلاميذ أمامها في كوابير ينتظرون دورهم لتسلم حصتهم من الخبز المحشو بملعقة كبيرة من مرقة العدس. المظهر الخارجي يوحي بأنها فقيرة. على كاهلها تقع مسؤولية تربية وتعليم طفل ناتج عن زواج فاشل من رجل فاشل وجد نفسه عاجزا عن الوفاء بمتطلبات الحياة في حدها الأدنى فلم يجد بدا من الهروب تاركا ابنه وزوجته في مواجهة مصيرهما المجهول.
التلاميد منشغلون الآن بالتهام الخبز المبلل بالمرق. قطرات المرق تتسرب من بين أناملهم وحبات العدس تتساقط على أرض الساحة فتلتقطها النملات الباحثات عن الزاد لادخاره للأيام العجاف. جلست قبالة الشمس وظهري مستند إلى الحائط أراقب حركات التلاميد في إطار القيام بمهمة الحراسة. وبينما أنا كذلك إذا بالمعلمة الحريرية الشعر تتقدم نحوي وتجلس أمامي القرفصاء وهي تقول لي: إذا أردت أن تتزوج فعليك بالبحث عن شابة تتمتع ببكارتها.

تلك كانت أول مرة تحصل لي فيها الحظوة بالتواصل المباشر بهذه المعلمة التي سبق لي أن تعرفت على خطيبها وتكلمت معه. من خلال تكرار نصيحتها لي، أدركت رسائل ضمنية أرادت المعلمة تمريرها إلي. أول تلك الرسائل هي أنها أرادت أن تغير مسار قصة حبي للأم الأمازيغية وتقنعني باستبدالها بعروس أقل منها سنا ولم يمسسها إنس أو جان. الرسالة الثانية تقول: كن خائنا تبد أجمل وتربح أكثر! فعندما كانت المعلمة توجه لي نصيحتها تلك ألقيت نظرة خاطفة إلى حجرها ورأيت أبا طرطور يطل علي عبر ثقبتين متطابقتين في التبان والسروال كليهما. في هذه اللحظة غلبني حيائي فنهضت واقفا وأشحت بوجهي معرضا عنها وقد حضرت بين عيني صورة خطيبها وهو يوصيني خيرا بخطيبته.
حتى البنت ذات الشعر الكستنائي التي كانت تصحب أمها إلى حيث أسكن من أجل التزود بقدر من العلف أرادت أن تتدخل لتغيير مجرى أحداث قصة حبي الغريب لصالحها. فعندما أردت ذات يوم الخروج من الباب الخلفي بنية عبور النهر في اتجاه الطريق المعبدة وامتطاء سيارة أجرة ذاهبة إلى أكدز، وجدت الفتاة امامي وهي قادمة من الحقول حاملة في يديها كأسين وإبريقا من الشاي. استغربت مجيئها عندي بمفردها حيث كنات لا تأتي إلى هذه الخربة الهائلة إلا وامها معها. تبادلنا التحية والابتسامات، ثم دخلت إلى الدار وهي تدعوني للحاق بها لنشرب الشاي سويا. لم أستسلم لغوايتها خوفا من الفضيحة، وحفاظا على سمعتي، فاعتذرت لها وواصلت مسيري.

ads after content
الإشهار 3
شاهد أيضا
الإشهار 4
تعليقات الزوار
جاري التحميل ...
الإشهار 5