ads980-90 after header
الإشهار 1

شجيرات المشمش تحركت وسط ذبالها وازدانت أغصانها الصغيرة بوريقات خضراء

الإشهار 2

العرائش أنفو

شجيرات المشمش تحركت وسط ذبالها وازدانت أغصانها الصغيرة بوريقات خضراء

أحمد رباص

كان بول فاليري صادقا عندما قال: ” الذاكرة هي مستقبل الماضي”. وتأكيدا لمصداقية هذه القولة الفاليرية، دعوني أناقشها في سطور قبل استئناف سيرتي المتشظية كمعلم في الضواحي القصية لحاضرة ورزازات. تجريبيا، سبق لي أن خبرت معنى تلكم القولة عندما كتبت في نهاية عام 1994 الحلقة 0 – إن شئتم – وعرفت طريقها إلى النشر ضمن أعمدة جريدة حزب عريس الشهداء.

بإمكاني الآن، ونحن في عطلة، القيام بزيارة لمقر الجريدة من أجل سحب نسخة من تلكم الحلقة وإعادة نشرها في هذا الموقع الإخباري الشامل الذي احتضن مذكراتي..لكني ضربت صفحا عن الفكرة بمبرر أنها باكورة، “عباسية” بالمعنى المصري والمغربي في آن واحد..قرأتها يوم نشرت، ولاحظت أنها نشرت بدون توقيعي الدال على هويتي..يومها أدركت مدى حرص أعضاء هيئة تحرير الجريدة على سلامتي وخيفتهم من أن أتعرض بسبب تلك الحلقة للانتقام على يد حراس المعبد..

كانت محاولة ناجحة رغم المدة القصيرة الفاصلة بين زمن كتابتها وزمن أحداثها، لذا ما زال طعمها الفطير يداعب لساني..أما الآن، فقد بعدت المسافة بين الزمنيين وصارت الرؤية أوضح..ربما لهذا السبب ارتأيت إعادة كتابة ما كتبت. ولكن أبشروا، معشر القراء..سوف أعمل على إعادة نشرها بحذافيرها عندما تسنح الفرصة؛ وذلك لتقفوا بأنفسكم على مصداقية مقولة فاليري من خلال المقارنة بين الروايتين/ الشهادتين.

بالمقابل، لم يكن صادقا من زعم أن الذاكرة لا تسعف في الانفلات من اللحظة الآنية إلا لهنيهات لا تدوم سوى مدة لمعان الحباحب المحتضرة، كما كتب سعيد عاهد في الصفحة 31 من “قصة حب دكالية”. والحق يقال، فبفضل ديمومة الذاكرة الدينامية، أراني مهيأ بما فيه الكفاية للتحدث لكم عن تجربتي السعيدة في مجال البستنة المدرسية ولو تخللتها انكسارات مفجعات..

في غضون النصف الأول من عامي الدراسي الثاني بمدرسة آيت حمو أوسعيد، زارنا، على حين غرة، مفتش اللغة العربية..قام بواجبه وراقب عملنا وثائقيا وميدانيا..خرج في الأخير بارتسامات مرضية (بتسكين الراء) وظهرت على وجهه علامات الارتياح للطريقة التي يسير بها العمل.. عندما هم بالانصراف أمرني بأسلوب لبق أن أعمل بمساعدة المتعلمين على خلق رونق لساحة المدرسة عن طريق الانخراط في أشغال البستنة الممكنة بفضل قرب القناة المائية المكشوفة الجارية على الدوام قريبا من المدرسة.وعدت السيد المفتش بتنزيل تعليماته الشفوية على أرض الواقع في أقرب الآجال ثم دعته يعبر النهر وحيدا..

في صباح الغد حضرت المعاول وانخرط الجميع في العمل بعد انتهاء زمن التعلم..فطنت أول الأمر إلى أن المدرسة واقعة في سفح الجبل ما يعني أن تربتها ذات طبيعة صخرية تعوزها الخصوبة وغير مواتية للزرع والغرس لغلبة مكوناتها المعدنية ولآنها تعاني من نقص كبير في المواد العضوية؛ لذا اقترحت على تلاميذي إزالة القشرة الأصلية بمساحة مستطيلة عرضها متر واحد ويوازي طولها الجزء الأكبر من واجهة القسم، على أن يوضع مكانها قشرة أخرى استمددنا تربتها من بساتين الواحة التي قتلت حفرا وحرثا دؤوبين على مر السنين..

أرضية العمل جاهزة الآن، لا بد من تسييجها حماية لنباتاتها الافتراضية من قضمات الشياه وذوات القوائم الأربع..جربنا في الأول زرع بذرات فول وفلفل..بعد ذلك، سقينا البذرات، وما هي إلا أيام حتى طهرت فلقات نبتات الفول ففرح المتعلمون لذلك ولم أترك الفرصة تمر دون استثمار ما لاحظوه في درس النشاط العلمي..بقدر ما تمر الأيام بقدر ما أخذت نباتات الفول تربو وتربو إلى أن أزهرت وفاح أريج عطر أزهارها..التلاميذ كلهم فرحون وفخورون بما حققت أكتافهم وسواعدهم الغضة من إنجازات أبهرت زملاءهم من الأقسام الأخرى الأقل منهم رتبة في تراتبية مستويات المدرسة الابتدائية، بل أبهرت حتى معلمهم المتحدر من آسفي والمشتق لقبه العائلي من الرعد..فكلما أطللت برأسي من إحدى نوافذ واجهة قسمي وأنا أستنشق بمتعة عبير أزهار نبات الفول اليانع إلا وأراه قادما إلي مخاطبا إياي بكلمات كلها اعتراف بالتفوق والانتصار..في خضم تلك التجربة، رأيت زميلي المسيفيوي يأمر أطفاله الصغار بجلب الماء من السافية ليسقي به ما زرعه من بذور في أرض كلسية قاحلة أصلا..تمكنت بعض البذور من الإنبات رغم عقم التربة ولكنها لم تنم بالشكل الذي يرضيه، فكنت أراه ينبش بعود في موضع النبتة على أمل ترطيب التربة عساها (النبتة) تنمو بسرعة.

جن جنون المعلم لما شاهد بأم عينه كيف أننا انتقلنا من مرحلة الزرع إلى مرحلة الغرس الذي لا ينبغي أن يتم قبل حلول شهر مارس..جيء لهذا الغرض بشتائل المشمش وغرسة يتيمة من التفاح كان أهذاني إياها أحد أصدقائي سليل الحراطنة المقيمين في قلب دوار آيت حمو أوسعيد..غرسنا شجيرات المشمش على أحسن ما يكون الغرس، حيث حفرنا حفرا بعمق ملائم وأهلنا على جذورها تربة مخلوطة بكمية كافية من روث الدواب غير مبالين للتمييز فيه بين العائد إلى التي لحمها حلال أو إلى “محرومة اللحم”. نفس الشيء عملناه لغرسة التفاح التي بدت لي كجزء من جدع شجرة حية معطاء..

عنمدا انتهينا من عملية الغرس، قمنا بري المغروسات واستمر اهتمامنا ذاك دائبا بلا إفراط أو تفريط. ما كاد شهر مارس يطل مبشرا بقدوم الربيع حتى بذأت شجيرات المشمش تتحرك وسط ذبالها وازدانت أغصانها الصغيرة بوريقات خضراء أية في الجمال..أما غرسة التفاح فكانت الأسرع في النمو وغدت عيدانها العارية أفنانا بارعة الحسن جعلت من الحيز المسيج يبدو كقطعة من الفردوس الذي وعذ به الرب الفائزين من عباده..الكل يتفرج على جنة عدن الصغيرة..المعلمون والمتعلمون..خلال هذه الأيام، لمست حماسا منقطع النظير لدى أطفالي الذين اعتبروا الإنجاز انتصارا لهم جميعا، لذا حرصوا على حمايتها من عبث العابثين طموحين لتوسيع مجهودهم ليطال الساحة بكاملها..

شاء المتآمرون في الظلام على وأد مجهودات الآخرين حتى لا ينفضح تقاعسهم أن يضعوا حدا لهذا الطموح الجامح إلى زرع بذور الجمال في أرجاء المدرسة..استغلوا عطلة عيد الفطر وتسللوا في حلكة الظلام إلى الحديقة الفتية وداسوا عليها بأقدامهم التتارية ليقتلعوا الشجيرات من مغارسها بفظاظة ووحشية من نخر الاغتراب عن كل القيم ضميره..وقفت وأطفالي على الكارثة التي ألمت بمزرعتنا الصغيرة فارتدينا وشاح الحزن وتجرعنا مرارة الخسران التي أبى الخبثاء إلا أن يمرروها عبر حلوقنا..في تجاويف هذه الأيام التي أعقبت اليوم الذي انكسرت فيه أحلامي وأحلام أطفالي على صخور الحقد الساكن في أحشاء مرضى النفوس، كنت أختلي ليلا برواية “الأشجار واغتيال مرزوق” للراحل عبد الرحمن منيف لأقرأها على ضوء الشمعة المذرفة للدموع حزنا على موتها الوشيك..كان أهم ارتسام علق بذهني عند انتهائي من قراءتها هو أن مرزوق رد الصاع صاعين لقاطع أشجاره بينما لم أتمكن أنا من ذلك لأن هوية أو هويات فاعلي الشر أولئك ظلت مجهولة عندي لحد كتابة هذه السطور..

ads after content
الإشهار 3
شاهد أيضا
الإشهار 4
تعليقات الزوار
جاري التحميل ...
الإشهار 5