ads980-90 after header
الإشهار 1

مفهوم التثاقف بين الآنثروبولوجيا وعلم التاريخ

الإشهار 2

العرائش أنفو

مفهوم التثاقف بين الآنثروبولوجيا وعلم التاريخ

تقديم وترجمة: أحمد رباص

عادة ما نفهم من كلمة acculturation (ثتاقف أو مثاقفة) تمثل مجموعة بشرية، كليا أو جزئيا، للقيم الثقافية مجموعة بشري أخرى، وقد تعني لنا على مستوى أصغر أقلمة فرد أوتأقلمه مع ثقافة أجنبية متصل بها. لكن ليس متاحا للجميع القيام بجولة عبر أرجاء السياق العام الذي احتضن نقاشا خصبا ومثيرا في آن لهذا المفهوم بين الباحثين المتخصصين في العلوم الاجتماعية. من أجل القيام بإطلالة على هذا السياق الحافل بالمغامرات، ارتأيت ترجمة مقال سيسيليا كوربو Cécilia Courbot المنشور بموقع الكتروني أكاديمي توجها وطابعا كايم أنفو.

بطريقة مختزلة إلى حد أدنى، تبسيطية تقريبا، يمكن تعريف مصطلح التثاقف أو المثاقفة على أنه صيغة تصف جميع الظواهر والعمليات التي تصاحب اللقاء بين ثقافتين مختلفتين. هذا المصطلح مستمد من الأنثروبولوجيا الأنجلو سكسونية حيث ظهر بالفعل في القرن التاسع عشر. ومع ذلك، لم يتطور استعماله في العلوم الاجتماعية الا انطلاقا من سنوات الخمسينيات من القرن الماضي.

يطرح مفهوم التثاقف مشكلة مفهوم الثقافة الذي يعد من جذوره. وليس هناك تعريف للثقافة واضح لا لبس فيه. فالتعاريف المقرتحة لمصطلح التثاقف هي إذن متعددة، وهذا صحيح حتى في المجال الذي نشأ فيه المصطلح. وقد أدت المناقشات المختلفة الناتجة عن استخدامه إلى العديد من إعادات التعريف والاحتياطات في استعماله، من دون حل صعوبات التعامل مع هذا المفهوم.

يبقى مصطلح التثاقف هذا مرتبطا بمواضيعية خاضعة للجدل. ويؤدي استخدامه في أغلب الأحيان إلى معالجة مفاهيم سجالية مثل مفاهيم العرق، الإثنية، العلاقة بين المجتمع المهيمن / المجتمع المهيمن عليه، الاستعمار. وهكذا، من أجل إعادة النظر في استخدام هذه الكلمة في مجال التاريخ، كان من الضروري أن نفهم بشكل أفضل تطورها مسبقا في إطارها الأصلي.

1- تاريخ المصطلح في الأنثروبولوجيا
يبدو أن تطور تعريف مصطلح التثاقف يرتبط ارتباطا وثيقا بتطور علم الأنثروبولوجيا، ولا سيما بمقاربته لظاهرة الاستعمار الأوروبي.
في علم الأنثروبولوجيا، أصبح مفهوم التثاقف واسع الانتشار في سنوات 1950-1960، في سياق تطوير المدرسة الثقافوية، المؤسسة على وجود مجموعة من السمات النموذجية التي تشكل الطابع العرقي الذي من شأنه أن يشكل الشخصية الأساسية للفرد، خلال طفولته. علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيون، مثل مايرز هيرسكوفيتش Meyers Herskovits، أجروا على هذا النحو دراسات عن الهنود والأميركيين السود.

في فترة زمنية سابقة، تم تصور مفهوم التثاقف كاستعارة ثقافية أحادية الاتجاه، كأن يستعير مجتمع “قديم” من مجتمع “متحضر”. ولكن، في وقت مبكر من عام 1938، اقترح مايرز هيرسكوفيتش تعريفا، أصبح كلاسيكيا: “يشمل التثاقف الظواهر التي تنتج عن الاتصال المستمر والمباشر بين مجموعات من الأفراد ذوي الثقافات المختلفة، فضلا عن التغيرات في الثقافات الأصلية للمجموعتين أو لواحدة منهما “. إن قراءة متمعنة لأعماله، تكشف لنا، مع ذلك، عن تقدم أقل شأنا مما يسمح بافتراضه هذا التعريف الجديد ، مع استخدام مفهوم “الهوية الأفريقية” (Africanité) الذي يفترض وجود ثقافة أفريقية شاملة. وبالتالي فإن مفهوم التفاعل بين الثقافات في الوجود يبدو خجولا في المجال الأنثروبولوجي، انطلاقا من تلك الفترة الزمنية .وسرعان ما ظهر مصطلح التثاقف على أنه يشمل فكرة عامة جدا.التزاما منها لتوضيح هذا المفهوم، لم تؤد محاولات مختلفة لإعادة تعريفه سوى إلى إنشاء مفردات جديدة. شاهدنا آنذلك تفكيكا للمفهوم الى عدة مفاهيم فرعية: endoculturation (اكتساب جملة من أنماط الوجود والتفكير والإحساس، جرى تعلمها وتقاسمها من طرف عدد كبير من الناس وهي خاصة بمجموعة إنسانية)، transculturation (عملية تحدث عندما تتلقى وتتبنى مجموعة اجتماعية أشكالا ثقافية تعود لمجموعة أخرى. غالبا ما ينتهي المطاف بالمجموعة الأولى إلى استبدال ممارساتها الثقافية الخاصة بها)، déculturation (فقدان ثقافة تقليدية أو جزء منها لصالح ثقافة جديدة)، syncrétisme (توليف بين اتجاهين ثقافين أو أكثر، يفرز أشكالا ثقافية جديدة).. الخ. في عام 1974، كتب ناثان واكتيل Nathan Wachtel أن التثاقف فكرة عامة جدا، لم تسمح بمعالجة تعدد عمليات التغيير التي سعت الأنثروبولوجيا لدراستها. ثم حينذاك اعتبار التثاقف عملية يمكن النظر اليها على أنها تمر من مراحل مختلفة. تعلق الأمر من الآن بدراسة ظواهر فقدان الثقافة أو “déculturation” وكذلك ظواهر التغير الثقافي أو “transculturation”، التي هي نتيجة طبيعية لعملية التثاقف. بالإضافة إلى ذلك، واستنادا إلى تعريف يؤكد على السيطرة الممكنة لثقافة على ثقافة أخرى، اهتمت الدراسات الجديدة بالمشاعر العاطفية مثل التأسف على الثقافة السابقة. وبهذه الطريقة، يدرسون محاولات العودة إلى ثقافة يشعرون بأنها حقيقية، وهي محاولات تتدخل في نهاية العملية التثاقفية.

هكذا يصبح التثاقف تدريجيا “مفهوما يدل على الظواهر المعقدة التي تنتج عن الاتصالات المباشرة والمطولة بين ثقافتين مختلفتين، مما يؤدي إلى تعديل أو تحويل نمط واحد أو أكثر من الأنماط الثقافية الحاضرة” (F. Greslet et alii, Dictionnaire des Sciences Humaines..). في عام 1981، قدم عمل سليم أبو Salim Abou أداة للتحليل من خلال تحديد وضعيات وتجارب التثاقف: تصنيف وضعيات التثاقف، تحديد الثقافات المتصلة في ما بينها، صيغ الثتاقف، عمليات التثاقف. ويعتقد المؤلف، في الواقع، أن “دراسة متعددة التخصصات لا تجعل من الممكن فهم هذه الظاهرة في واقعها المباشر، ولكنها توفر شبكة للتحليل تمهد لفهمه” (S. Abou, L’identité culturelle, relations interethniques..). تكمن أصالة هذه الدراسة في كونها لا تقتصر على الوضعيات الاستعمارية، وإنما تحلل ظواهر التثاقف الناجمة عن الهجرة. هكذا نجد أنها تأخذ بعين الاعتبار أنواعا جديدة من الاتصال، وبالتالي وضعيات تثاقفية جديدة.

إن مصطلح التثاقف يشمل، على هذا النحو، جميع العمليات الممكنة، ولكنه يظل أكثر شيوعا في تعريفه التقييدي للاتصال الثقافي بين مجتمعين بقوتين غير متكافئتين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الدراسات الأنثروبولوجية تحافظ على ميلها إلى فك لغز التغير الثقافي من وجهة نظر واحد فقط من الطرفين الحاضرين.
2- استعارة المفهوم وإعادة تأويله في علم التاريخ

من الإشكاليات الجديدة التي جاء بها كتاب “صنع التاريخ” الصادر عام 1974 إلى الكنايات الحكيمة التي حفل بها كتاب “من أجل تاريخ ثقافي ” الصادرعام 1997 (وهما من تأليف J. P. Rioux وJ.-F. Sirinelli)، تمتد الرحلة التأريخية لمفهوم التثاقف الذي تم تلخيصه بهذه الطريقة. التاريخ الثقافي هو مجال الدراسة الذي، من وجهة نظر مدرسة الحوليات، تم تثمينه منذ ما يقرب من عقدين من الزمن. ووفقا لجان-فرانسوا سيرينلي، الذي يحيل عليه جان بيير ريو، ” التاريخ الثقافي هو ذلك التاريخ الذي يأخذ على عاتقه دراسة أشكال تمثلات العالم ضمن مجموعة بشرية يمكن أن تختلف طبيعتها – على الصعيد الإقليمي أو الاجتماعي أو السياسي – والذي يحلل تكونها أو التعبير عنها أو نقلها ” (J. -P. Rioux, Introduction: un domaine et un regard,… ) وهكذا فإن الاهتمام بالتاريخ الثقافي يؤدي حتما إلى مجابهة علم التاريخ لظواهر التثاقف.

في عام 1974، قدم ناثان واكتيل التثاقف كموضوع بحثي في ​​صيرورة، في مراحله الأولى (واكتيل، المرجع السابق). لقد تساءل قبلا عن الطرق التي يمكننا بها “استعارة” هذا المفهوم من الأنثروبولوجيا، في أي المجالات وبأي الأساليب والاحتياطات. أسئلة كثيرة كان علينا استعادتها على حسابنا، أثناء إعدادنا لهذا المقال. عام 1997، في كتاب “من أجل تاريخ ثقافي” لم يتم تناول المفهوم الا بمواربة في المقال المتعلق بورش “التاريخ الديني، التاريخ الثقافي”، مع وصفه بأنه مفهوم “مهدى” لا يخرج أبدا عن “مجال اللاهوت وتاريخ البعثات الدينية الخارجية ” (M. Lagrée, Histoire religieude, histoire culturelle, …). في الكتاب ككل، وحدها صيغ التحولات والاتصالات الثقافية هي ما تم استخدامه، دون استخدام المفردات المعدلة في الأنثروبولوجيا. وتجدر الإشارة إلى أن التاريخ القديم لا يناقش على الإطلاق في هذا الكتاب. في عقدين من الزمن، تحول مفهوم التثاقف من وضعه كتوجه بحثي واعد ولكن معقد في تناوله إلى وضعه كمصطلح حمال لعدة معان، يتعين اجتنابه في معظم الحقول التاريخية.

3- التثاقف والتاريخ الأفريقي
أما بالنسبة إلى ناثان واكتيل، فإن مجال الكفاية الأول، والبدائي، لمفهوم الثثاقف هو الوضعية الاستعمارية، وطلب بأن يكون مجال تطبيقه محدودا في البداية على الأقل (واكتيل، المرجع السابق. ص. 125)، وذلك من أجل السماح بوضع مفاهيم إجرائية تسمح بتوسيع مجال البحث. كذلك، يبدو أن التاريخ الأفريقي هو الأكثر اهتماما بشكل مياشر باستخدام هذا المفهوم.

الصعوبة هي أن استيراد مصطلح التثاقف كان مبكرا جدا في التاريخ الأفريقي، بل إن دلالته الأنثروبولوجية في سنوات الثلاثينيات هي ما تم اعتماده . هذا التعريف تم آنذاك تحميله بنصيب من الأحكام القبلية العنصرية، حيث ركزت البحوث أساسا على تاريخ المستعمرين والتوسع الأوروبي. وقد تم تفسير بعض ما يسمى بالجوانب “المتحضرة” من الثقافات الأفريقية من خلال اتصالاتها ب”الأعراق المتفوقة”، ببشرة أكثر بياضا مثلا. بعد ذلك أصبح التثاقف معونة مفاهيمية لتاربخ حاول إضفاء الشرعية على المؤسسة الاستعمارية الأوروبية.
وفي وقت لاحق، مع التخلي عن مفاهيم العرق في التاريخ الأفريقي، ظهر معنى جديد لمفهوم التثاقف في 1950. عندئذ نشأت فكرة عن “ثقافة أفريقية” شاملة ما زال ينظر إليها، في معظمها، من خلال عيون المستعمرين.

أعادت المهمة الكبرى لإنهاء الاستعمار التي تم الاضطلاع بها خلال الفترة الموالية، فضلا عن الدراسات الإثنولوجية التي أجريت خلال الفترة الاستعمارية، تركيز التاريخ الأفريقي على الأفارقة وثقافاتهم الخاصة بهم. وتصر بعض النظريات، التي تحملها الحركات القومية، على ضرورة أن يعيد المستعمرون (صيغة اسم المفعول) امتلاك هوياتهم الثقافية، في حركة يمكن أن تفسر على أنها رد فعل مضاد للتثاقف.

في هذا السياق، يصبح مصطلح “التثاقف”، الذي تلوثه بقوة رؤية استعمارية وعنصرية، مفهوما بمعان هي من الكثرة بحيث يفضل عليه الآن مصطلح “التفاعلات الثقافية”. من خلال انزلاق، دلالي، تأخذ البادئة (ad) معنى سالبا: تصبح عملية التثاقف مرادفا لزعزعة الاستقرار في الثقافة من خلال إضافة عناصر أجنبية. ومن ثم ينظر إلى ذلك على أنه فقدان للثقافة، وتلك عملية سلبية يتولد عنها التخلف.

لقد أفضى القبول بمفهوم التثاقف في مرحلته “الاستعمارية”، ضمن المجال الأنثروبولوجي، إلى الرفض التام لهذه الفكرة. ولا تدرس ظواهر التثاقف إلا من خلال واجهتها ك”تفاعلات ثقافية”، وهي عبارة بمثابة نسخة باهتة نسبيا من المفهوم الأصلي.
ناثان واكتيل نفسه السالف الذكر طرح بالفعل مشكلة إمكانية تمديد، لاحقا، مفهوم التثاقف خارج الوضع الاستعماري إلى حالات أخرى من عدم التجانس الثقافي، ولا سيما من أجل تجديد بعض الأسئلة الكلاسيكية (واكتيل، المرجع السابق، ص. 143) مثل نشر الثقافات اليونانية والرومانية. وهكذا، في سنوات 1970-1980، كان مفهوم التثاقف في محور البحوث المختلفة في التاريخ القديم. غير أنه تجدر الإشارة إلى أن المصطلح نفسه لا يستخدم دائما. وقد أدت دراسة انتشار الثقافة اليونانية والثقافة الرومانية إلى خلق اصطلاحات خاصة: hellénisation, romanisation.

المشاكل التي عالجها التاريخ القديم تظهر بأنها “قرينة جدا، بعد اجراء التعديلات الضرورية، مع المشاكل التي عرفها العصر الاستعماري الحديث” (H. Van Effenterre). هكذا حاولت دراسة أنجزها غروزينسكي و أ. روفيريه S. Gruzinski et A. Rouveret المقارنة بين التاريخ الاستعماري للمكسيك وإضفاء الطابع الروماني (romanisation) على جنوب إيطاليا (غروزينسكي، روفيريه، التاريخ والتثاقف..). مع ذلك، تعتمد مصطلحات مثل “romanisation” أو ” hellénisation” على مفهوم التثاقف القائم على أساس علاقة مجتمع مهيمن / مجتمعات مهيمن عليها، المستمدة من التعاريف الأولى للمفهوم في الأنثروبولوجيا. وستنطلق التبادلات الثقافية أساسا مما يسمى بالمجتمع “المتحضر” تجاه مجتمع آخر يعتبر أكثر “توحشا”: ظواهر التثاقف تم إدراكها إذن على أنها وحيدة الاتجاه.

كذلك، في الآونة الأخيرة، أصبحت كلمة “romanisation” مصطلحا يتعين هجرانه لأنه لا يأخذ في الاعتبار تعقد الظواهر التثاقفية. فهو يطرح، على وجه الخصوص، مبدأ ثقافة رومانية، نوع من الهوية الرومانية المثالية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يأخذ في الاعتبار فقط التبادلات من جانب واحد، تلك المنطلقة من روما نحو المناطق المفتوحة. لم يعد إذن هذا المفهوم يحتفظ سوى بقيمة استدلالية من خلال “الدعوة إلى حصر مشاكل إيقاعات نشر الخصائص التي نتمثلها عن الهوية الرومانية” (Intervention orale de Ch. Goudineau à un séminaire).

في هذا المجال التاريخي نفسه، تجدر الإشارة إلى أن المؤرخين البريطانيين يحتفظون بمصطلح romanisation، الذي تمت إعادة صياغة مضمونه بشكل جذري. وعلى وجه الخصوص، فقد أدمجوا مفهوم الطبيعة الثنائية للظواهر التثاقفية. لقد ظهر لهم المصطلح الذي أعيد تعريفه بهذه الطريقة إجرائيا، حتى لو كان استخدامه دائما يثير بعض الصعوبات (M. Millett, Romanization ). في الواقع، كيف يتم اتخاذ موقف محايد لتحليل مساهمة ظواهر التثاقف في مسار التحولات البعيدة المدى (R. Reece, Romanization: a point of view)، وكيف يمكن تعريف الثقافات المعنية بينما نحن لا ندركها أساسا الا من خلال واحدة منها فقط؟

في نهاية المطاف، ذلك جانب آخر من مفهوم موروث عن الاستعمار، (مفاده)فكرة عن علاقة الهيمنة بين المجتمعات المختلفة، وعن اتجاه ثقافي أحادي الجانب، ينطلق من المجتمع الأكثر”تحضرا” نحو المجتمعات الأخرى، وهو الذي يؤدي إلى رفض. استخدام الكلمة والاصطلاحات المشتقة منها. إن ظواهر التثاقف لم تعد تقترب (مبني للمجهول) إلا من خلال كنايات اختزالية نسبيا: “تحولات أو تبادلات ثقافية”، “تراث، تأثير ثقافي”، إلخ…
4- التثاقف والتاريخ في العصر الوسيط والعصر الحديث

فيما يتعلق بالتاريخ الأوروبي في العصور الوسطى والحديثة، هناك عدد قليل من الدراسات التي تجعل حقا من التثاقف موضوعها الرئيسي، حتى لو تم التعامل مع ظواهر مختلفة من التثاقف في سياق حالات متعددة من الاتصالات الثقافية ( الشرق / الغرب خلال الحروب الصليبية، الغزوات البربرية، إسبانيا وغزو العالم الجديد …). في معظم هذه الدراسات، كما يتضح من استخدام كنايات متعددة، يستخدم التثاقف دون أن يخضع لتحليل مفاهيمي. وغالبا ما تقترب (مبني للمجهول) ظواهر التثاقف من زوايا ضيقة، جزئية، وبطريقة متفككة جدا.

منذ أكثر من عقدين من الزمن، طرح واكتيل بالفعل مسألة استعارة وإعادة تأويل مفهوم الثثاقف في التاريخ. بل إنه اقترح توجيهات بحثية للتحقق من صحة هذا المفهوم. وينبغي أن تؤدي هذا الأعمال “التمهيدية”، من خلال المقارنة بين دراسات محددة، إلى “تفكيك مفهوم التثاقف إلى مقولات محدودة ولكنها إجرائية، من شأنها أن تراعي، من خلال التراكم الفوضوي للوقائع، وفق ترتيب ضمني.هذا التحليل والمقارنة بين الخصائص الخارجية للتثاقف يجعلان من الممكن وضع تصنيف وربما الجمع بين المجتمعات المعنية، وطرائق الاتصال والنتائج المتوصل إليها ” (واكتيل، المرجع السابق، ص. 26). على العكس من ذلك، أدت البحوث المتعلقة بالتثاقف في التاريخ إلى التخلي عن هذا المفهوم، الذي تمت ملاءمته في ميدان الأنثروبولوجيا مع “عهده الاستعماري”، وأصبح متعدد المعاني.

ومع ذلك، فإن تطور البحوث الأنثروبولوجية مكن من إنشاء صنافات تجميعية، تماما كما كان يأمل ناثان واكتيل، خاصة بفضل أعمال أبو سليم. يتوفر علم التاريخ إذن على قواعد جديدة لإعادة النظر في مفهوم التثاقف، وهو في غنى عن مناقشات التاريخ الاستعماري.

ففي هذا السياق الجديد أردنا أن نرسخ أسئلتنا ودراستنا المقدمة هنا، بالارتكاز على مفردات وصفية نشأت أول ما نشأت في الأنثروبولوجيا. غير أنه لا يجوز لنا أن نطمس عددا معينا من الصعوبات الخاصة بالتاريخ: الأعمال القائمة، بالقوة، على البيانات الجزئية والمتحيزة، والتحليل الذي يقتصر على بعض المجموعات السوسيوثقافية، على مجالات ثقافية معينة، وعلى الجوانب الموثقة بشكل أفضل. كذلك، هل يمكن أن ندرس جانبا محدودا من عملية المثاقفة؟ هل يمكن أن نجد وجهة نظر تجعل من الممكن تمييز الظواهر التثاقفية التي تحدث في المجتمع عن اتجاه عام للتغيير؟ كيف نحدد على نحو موضوعي الثقافات المتصلة في بينها اعتمادا على وثائق متحيزة أو عندما توجد اتصالات متعددة منذ فترة طويلة؟

الحاصل أن تأملاتنا أدت إلى أن نستخدم هنا التثاقف كمصطلح إجرائي، ينطوي على مفهوم العملية، وترافقه المفردات الوصفية المفيدة لتحليل المجتمعات الماضية. تلك إذن هي الأسئلة التي استدعاها استخدام هذا المصطلح والتي بدت لنا مهمة، لأنها أدت الى إعادة بناء عملية التطور. لقد أفضت إلى تحديد الثقافات المعنية بالثثاقف، والعلاقات بينها، وناقلات التغيير، الخ..الانكباب على دراسة التثاقف هو محاولة لتوصيف ميكانزماتات التحول انطلاقا من شبكات كبرى للتحليل الوصفي المقترح من قبل الأنثروبولوجيا. وكما كتب أبو سليم، فإن الدراسة، حتى الأكثر نجاحا، لا تسمح لنا بفهم ظاهرة التثاقف في واقعها المباشر، ولكنها لا تقدم إلا شبكة تمهد لفهمها ( أبو سليم، المرجع السابق، ص. 24). ويبدو ذلك صحيحا أكثرعندما ننكب على المجتمعات السابقة التي لا تتوافر بشأنها سوى بيانات شذرية وغالبا ما تكون متحيزة. إن تنوع التأملات المقدمة هنا حول هذا الموضوع يبرز تنوع زوايا المقاربة وثراء هذا المصطلح الإجرائي.

ads after content
الإشهار 3
شاهد أيضا
الإشهار 4
تعليقات الزوار
جاري التحميل ...
الإشهار 5