في زمن المسخ… المدرسة آخر حصن للكرامة

في زمن المسخ… المدرسة آخر حصن للكرامة
إلى من يهمهم الأمر : رجال ونساء التربية والتعليم ر(سالة مفتوحة في اليوم العالمي للمدرس )
من زميل متقاعد، قضى أكثر من خمسة وثلاثين سنة في خدمة التربية والتعليم، تدريسًا وإدارةً وتأملًا في الحقل التربوي.
أيها الزملاء والزميلات،
يحلّ اليوم العالمي للمدرس هذا العام في سياق خاص، يتزامن مع احتجاجات واسعة للشبيبة المغربية، تعبّر عن قلق عميق تجاه المستقبل، وتعيد طرح أسئلة في جوهرها عن الحق والعدالة في مغرب اليوم. في هذا المناخ، يكتسب الخامس من أكتوبر 2025 رمزية مضاعفة: فهو ليس فقط مناسبة للاحتفاء بالمدرس، بل لحظة للتأمل في أدوارنا، وفي ما آلت إليه المدرسة كمؤسسة، ورسالة، وأفق.
أكتب لا من موقع الوظيفة، بل من مقام التجربة، وقد بلغت مرحلة الإحالة على المعاش بعد مسار امتد لأكثر من خمسة وثلاثين سنة بين القسم والإدارة، وبين الممارسة والتأمل. أكتب بصيغة “نحن”، لأن الانتماء إلى هيئة التدريس لا ينتهي بانتهاء المهام، بل يظل حيًّا في الوجدان، وفي الإيمان العميق برسالة التربية.
نحن أكثر من ناقلي معرفة.
نحن مربّون، وموجّهون، ومؤتمنون أيضًا على مستقبل مجتمع، وعلى الإنسية المغربية المنفتحة على الكونية الإنسانية. في كل حصة دراسية، وفي كل موقف تربوي، نزرع بذورًا قد تنبت قيمًا، أو توقظ ضميرًا، أو تعيد تشكيل وعي. لا يحق لنا أن نستهين بتأثيرنا، ولا أن نغفل عن كون المدرسة اليوم هي آخر حصن في وجه التفاهة، واللامبالاة، والمسخ، والانفصال عن الذات الجماعية.
نحن في قلب معركة ترميم الوعي القيمي وإعادة بناء الإنسان.
في زمن تتراجع فيه الأسرة عن دورها، وتغيب فيه القدوة في الفضاء العام، وتُختزل فيه القيم في شعارات فارغة، تصبح المدرسة المجال الوحيد الذي يمكن أن يعيد تشكيل الوعي الجمعي، ويغرس قيم الاحترام، والعدالة، والحرية، والانتماء. نحن، في هذا السياق، لسنا موظفين، بل فاعلون تاريخيون في معركة استعادة الكرامة التربوية.
الإدارة التربوية جزء لا يتجزأ من الفعل التربوي.
رغم التصنيفات الفئوية التي تُجزّئ الجسم التربوي، فإن المديرين والإداريين داخل المؤسسات التعليمية، وكذا العاملين في المديريات الإقليمية، يشكّلون مع المدرسين نسيجًا واحدًا، محكومًا بنفس الغايات التربوية، ومطالبًا بنفس الالتزامات الأخلاقية. إن تجاوز النظرة التقنية إلى الإدارة، والانفتاح على إشراك حقيقي لا شكلي، يُعدّ شرطًا أساسيًّا لإعادة بناء الثقة داخل المؤسسات. لا يكفي أن تُدار العلاقات التربوية عبر المذكرات والتعليمات، بل يجب أن تُبنى على التواصل المباشر، والتقدير المتبادل، والاعتراف المتبادل بالأدوار. نحن بحاجة إلى علاقات أكثر إنسانية، تعيد للمدرسة روحها الجماعية، وتحوّلها من فضاء للتدبير إلى فضاء للتعاون والتشارك في بناء الإنسان.
نحن مطالبون بإحياء الضمير الأخلاقي داخل المؤسسات.
لا معنى لأي إصلاح تربوي دون ترسيخ قيم المساواة، والإنصاف، وتكافؤ الفرص، والديمقراطية المدرسية. المدرسة ليست فقط فضاءً للتعلم، بل مجالًا لتجريب العدالة في أبسط صورها: في التقييم، في التعامل، في التوجيه، وفي الاعتراف بالاختلاف. يجب أن نقاوم كل أشكال الابتزاز التربوي، وعلى رأسها الدروس الخصوصية التي تحوّل المعرفة إلى سلعة، وتعمّق الفوارق بين التلاميذ. كما أن من واجبنا أن نولي أهمية قصوى للتلاميذ من ذوي القدرات والاحتياجات الخاصة، لا من باب الشفقة، بل من باب العدالة التربوية، والاعتراف بحقهم الكامل في التعلم، والاندماج، والنجاح.
نحن مطالبون باليقظة والتجديد.
لا يكفي أن ندرّس، بل يجب أن نربّي على التفكير النقدي، لا على الحفظ؛ على الحوار، لا على الطاعة العمياء؛ على الانتماء المسؤول، لا على التبعية. وهذا لا يتحقق إلا بمدرسين واعين بدورهم، متجددين في أدواتهم، متجذرين في قيمهم، ومؤمنين بأن التغيير يبدأ من القسم، لا من فرض القوانين فقط.
لكن كل ذلك لا يلغي الإكراهات البنيوية الكابحة.
إن ما ندعو إليه من يقظة أخلاقية وتجديد تربوي لا يعفينا من الاعتراف بالإكراهات العميقة التي تعيق الفعل التربوي اليوم: سياسات عمومية ارتجالية في تنزيل برامج الإصلاح، تراكمات غير منسجمة، وأزمات مجتمعية تحيط بالمدرسة من كل جانب—اقتصادية، وثقافية، وقيمية. هذه العوامل تضعف أثر المدرسة، وتربك رسالتها، وتحمّل الفاعلين التربويين أعباءً تتجاوز طاقتهم. لكن رغم ذلك، يبقى الوعي بهذه الإكراهات جزءًا من مسؤوليتنا، لا ذريعة للتراجع، كما هو الوعي بأهمية النضال النقابي والسياسي من أجل سياسة عمومية تربويىة تعليمية تناسب طموحنا الجماعي
نحن شهود على التحولات، لكننا أيضًا فاعلون فيها.
حين نُعيد بناء الثقة في ذواتنا التربوية، ونُدرك حجم الأدوار التي نضطلع بها، يمكن للمدرسة أن تتحوّل من فضاء للتلقين إلى فضاء للتفكير، ومن مجال للتعليم إلى مجال للتنشئة، ومن وظيفة إدارية إلى رسالة إنسانية. إن مقاومة الانحدار القيمي لا تبدأ من السياسات بالضرورة، بل من القسم، ومن العلاقة التربوية اليومية، ومن الإيمان بأن المدرسة ليست فقط مرآة المجتمع، بل أداة لإعادة تشكيله .
في هذا اليوم، أحييكم، وأشدّ على أيديكم، وأتقاسم معكم هذا النداء من موقع من عاش التجربة، ويواصل الإيمان بها.
كل عام وأنتم بخير عللى درب التربية والتعليم والنضال، كلٌّ من موقعه ومسؤوليته.
المصطفى سكم 05ـ10ـ2025