هل تتغلب موعظة الجمعة على إرث الإعلام العمومي؟

هل تتغلب موعظة الجمعة على إرث الإعلام العمومي؟
العرائش أنفو
برعلا زكريا
خصصت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية خطبة هذه الجمعة لتربية الأولاد والقاصرين، في توجيه ديني كان يمكن اعتباره اعتياديا لولا تزامن هذا التذكير الروحي مع حراك اجتماعي غير مسبوق يقوده ما يسمى بـ جيل z، حيث خرج السخط الاجتماعي من صالات النقاش المعتادة ليتجسد في وقائع تخريب وفوضى عامة ، يقف خلفها بمعظمه قاصرون. يطرح هذا التزامن السؤال الكبير الذي يتردد صداه في خواطر المصلين والمتابعين: هل تصلح خطبة الجمعة ما أفسدته منظومة متكاملة من الإهمال الاجتماعي والاقتصادي، والذي يمكن اختصاره بسؤال أكثر مرارة: هل تصلح خطبة التوفيق ما أفسدته قنوات العرايشي؟
لا يمكن أن تكون الإجابة عن هذا التساؤل سطحية، بل تتطلب تشريحا لواقع متأزم، حيث بات القاصر يمثل مشكلة حقيقية وقنبلة موقوتة تهدد أسس الاستقرار في البيت والمدرسة والدولة.
إن تربية الطفل والقاصر، كما يتفق علماء الاجتماع والتربية، لا يمكن أن تكون نتاج جهد أحادي، بل هي جهد تشاركي يستند على ثلاثة أركان رئيسية هي الأُسرة، والمؤسسات التعليمية، والإعلام. وكل هذه الأركان تعاني اليوم من وهن بنيوي غير مسبوق، جعلها تفشل في مهمة التنشئة السليمة، لتدفع بالطفل والمراهق إلى حضن الشارع أو الفضاء الرقمي الملغوم في غياب حلول سياسية وتنموية موجهة لهذه الفئة العمرية.
في البيت، تتحول الأزمات الاقتصادية الخانقة، وغلاء المعيشة، والصعوبات اليومية، إلى توترات مستمرة تبقي العلاقات الزوجية في المناطق الحضرية أكثر هشاشة وتتميز بصراعات تنتج العنف. ويحول الضغط المادي الذي يواجهه الأبوان المنهكان اقتصاديا البيئة الأُسرية من ملاذ آمن إلى ساحة للصراع، وفي ظل عدم قدرة الوسط العائلي على توفير السكينة المادية والعاطفية، يصبح البيت طاردا. ويظهر الارتفاع القياسي في حالات الطلاق مدى هذا التفكك الأُسري السريع، هذا الانهيار في البنية الأساسية للمجتمع يجعل القاصر يتحول سريعا إلى مشكلة تعكر صفو الأجواء، ينعكس على علاقة الزوجين ويزيد العلاقات توترا وشحنا، وينتج عنه ارتفاع في حوادث العنف الأُسري والعنف ضد الأُصول، لتكون الأُسرة هي أول من يغذي مشكلة القاصر عبر بوابة الإحباط والتفكك.
أما المدرسة، التي هي الحصن الثاني للتربية ومسؤولية الدولة الدستورية في توفير تعليم أساسي مجاني وإلزامي ، فقد فقدت قدرتها على التوفيق بين مهامها في ظل واقع عدم تكافؤ الفرص الذي رسخ نظام التعليم ثنائي السرعات. نجد قطاعا عاما متعثرا ومكتظا، يعاني من نقص حاد في الموارد والبنية التحتية، إذ يفتقر عدد كبير من مؤسساته للحد الأدنى من البنية التحتية، وتعاني المدارس القروية تحديدا من نقص فادح في المرافق الأساسية. وفي المقابل، نجد قطاعا خاصا يوفر الجودة، لكنه ليس متاحا للعموم، مما يخلق إحساسا عميقا بالظلم الاجتماعي. هذا الواقع المرير يساهم بشكل مباشر في الهدر المدرسي الذي يستنزف مستقبل البلاد، حيث يتخلى مئات الآلاف من الأطفال عن الدراسة سنويا كما تفشل المدرسة في إكساب القاصر المهارات اللازمة للمستقبل، ويجد المدرسون أنفسهم اليوم يواجهون غضب القاصرين وسط حالات متزايدة من العنف في الوسط التعليمي دون أن يمتلكوا حلولا ردعية أو وقائية فعالة.
لكن الكارثة الكبرى التي تلامس صلب السؤال المطروح، تكمن في الركن الثالث: الإعلام. فبسبب ترسيخ التفاهة والمحتوى السطحي في القنوات العمومية ، وتحولها إلى منصة للمسلسلات التركية والمحتويات المكررة ، تحول الإعلام من أداة توجيه وتربية ورفع للذوق إلى مصدر لتسطيح النقاش العام وتدمير النسيج المعرفي. هذا الإهمال المتعمد لإنتاج بدائل ذات جودة، هو إخفاق سيادي يخلق فراغا ذهنيا لا يلبث أن يملأه محتوى آخر غير مراقب. وعندما يضاف إلى هذا الولوج اللامحدود وغير المراقب للهواتف الذكية من طرف القاصرين، يصبح المحتوى التافه وغير الأخلاقي هو الموجه الأساسي لجيل بأكمله، معرضا نفسه لتطبيقات خبيثة تروج للدعارة والتعري مقابل تحصيل الأموال. إننا نربي جيلا يغرق في عالم رقمي لا تحكمه قوانيننا، وتغزوه الجرائم السيبرانية دون أن نوفر له درعا أو حصنا لحماية أطفالنا من المحتوى الإباحي والضار، كما فعلت دول أخرى. فرغم وجود تشريعات ونقاشات برلمانية حول تقييد استخدام الشاشات ، يبقى التطبيق الفعلي لتأمين الحدود الثقافية والرقمية للقاصرين غائبا بشكل مقلق.
تتفاقم الأزمة بفعل البيئة الملوثة التي تحيط بالقاصر خارج البيت والمدرسة. ففي ظل الانتشار المقلق للمخدرات قرب محيط المؤسسات التعليمية، حيث تصبح المدرسة العمومية مستهدفة من تجار الجنس والمخدرات وتجار السجائر والمعجون ، وفي ظل الانتشار الكثيف لمراكز بيع الخمور ومقاهي الشيشة التي تتحول إلى مرتع لتناول الممنوعات واستقطاب القاصرات والقاصرين لممارسة تجارة الجنس والدعارة ، يصبح القاصر فريسة سهلة لشبكات الفساد والاتجار التي تتربص به. والتسامح مع بؤر الفساد، سواء عن طريق غض الطرف أو ضعف الرقابة، يوفر للقاصر المنفصل عن المدرسة وعن أسرته بديلا مظلما: بدلا من التكوين، يجد المخدرات، وبدلا من الدعم العاطفي، يجد الاستغلال الجنسي، كل هذه العوامل مجتمعة، من الفشل الأسري والاقتصادي إلى الوهن التعليمي وصولا إلى بيئة الفساد المتاحة رقميا وميدانيا، جعلت القاصر وقودا لحالة الاحتقان المتزايدة.
لكل ما سبق بات القاصر يمثل تهديدا حقيقيا في الأبعاد الثلاثة. فهو مشكلة في البيت (عنف ضد الأُصول)، ومشكلة في المدرسة (عنف في الوسط التعليمي)، وهو أيضا مشكلة بالنسبة للدولة. والدليل القاطع على ذلك هو حالات التخريب والفوضى العامة التي صاحبت احتجاجات جيل ز ، حيث أكدت بيانات رسمية أن 70% من المشاركين في أحداث العنف قاصرون، ووصلت النسبة إلى 100% في بعض الأحيان. هذا يعني أن الأزمة ليست هامشية، بل إن القاصر أصبح الوجه الأكثر وضوحا للسخط الاجتماعي والسياسي الناتج عن تدهور الخدمات العامة وبطالة الشباب والتفاوت الاجتماعي. في مواجهة هذه القنبلة الموقوتة، تسارع الدولة إلى حلولها الفورية التي ترتكز على القانون وإيداع المخالفين بالإصلاحيات والسجون، لكن هذا الحل ردعي لا يمتلك أي بعد علاجي أو وقائي، بل هو إقرار بفشل السياسات الاجتماعية والاقتصادية في احتواء هذه الفئة.
إن تربية الطفل والقاصر لا يمكن أن تحصل إلا بجهد مشترك بين الأُسرة والدولة، خصوصا أن الدولة تتحمل المسؤولية الأولى في توفير البيئة الصحية والمناخ الآمن لنمو الطفل، وهو ما يتطلب تحولا جذريا في أولويات السياسات العمومية، وليس مجرد خطبة توجيهية. أولا، يجب أن تلتزم الدولة بتطبيق حقيقي للرقابة الرقمية، ولنا في التجارب الدولية خير دليل، حيث يتم حجب المواقع الإباحية واتخاذ إجراءات لتقييد ولوج الأطفال القاصرين للإنترنت واستعمال الشاشات والألعاب الإلكترونية. ثانيا، يجب محاربة التفاهة في الإعلام بكل حزم لرفع مستوى الوعي والثقافة. ويجب تشديد الخناق وبيد من حديد على باعة المخدرات ومروجيها قرب المدارس ، وعلى مقاهي الشيشة والحانات والعلب الليلية والتطبيقات الخبيثة التي تستقطب القاصرات والقاصرين وتستغلهم في تجارة الجنس والدعارة. وثالثا والأهم، أن تلتزم الدولة بمسؤوليتها في التتبع والتوجيه حسب اهتمامات القاصر، سواء لمتابعة الدراسة أو للتكوين المهني عبر برامج مثل مدارس الفرصة الثانية لإدماج التلاميذ المنقطعين ، مع إحداث ضمانات حقيقية لولوج سوق الشغل. عندها فقط، يمكن لدرس الخطبة أن يكون مؤثرا ومحققا للمقاصد.
