هيرمينوطيقا السياسيين بالمغرب: طْحَنْ لُورَاقْ نموذجًا

هيرمينوطيقا السياسيين بالمغرب: طْحَنْ لُورَاقْ نموذجًا
العرائش أنفو
إن السياسة في المغرب ليست مجرد ممارسة مؤسساتية أو تدبير عقلاني للشأن العام، بل هي قبل كلّ شيء فضاء تأويلي كثيف، تُصاغ فيه المعاني وتُعاد صياغتها باستمرار، بين ما يُقال وما يُخفى، بين ظاهر الخطاب وباطنه، فكلّ كلمة في الحقل السياسي المغربي تَخفي وراءها لعبة لغوية مضمّخة بالرمز والإشارة والتورية تُترجم عمق الصراع بين الخطاب والواقع.
من هنا تأتي أهمية الحديث عن هيرمينوطيقا السياسيين بالمغرب، أي فنّ تأويل خطابهم، ومحاولة فهم ما يُقال من خلال ما لا يُقال، وفي هذا الصدد سأحاول مقاربة هذا الفهم من خلال نموذجٍ دالٍّ وهو عبارة “طْحَنْ لُورَاقْ” التي صدرت مؤخرا عن برلماني والتي فُهِمت من قبل الكثيرين على أنها تشير إلى عملية طحن الأوراق ومزجها مع الدقيق، والتي حاول السيد البرلماني لاحقا نفيها واستدراكها معتبرا ذلك نتيجة سوء الفهم والتأويل على حد تعبيره مسارعا إلى تصحيح المقصود من وراء عبارته “طْحَنْ لُورَاقْ”، بما تحمله من دلالات رمزية عنيفة ومتوارية في البنية السياسية المغربية. كل هذا من خلال الفهم الهيرمينوطيقي باعتباره طريقة لقراءة العالم بوصفه نصًّا حسب كل من شلايرماخر وهايدغر وغادامر، وليست فقط منهجا لتأويل النصوص، لذلك عندما ننتقل بهذا المفهوم إلى السياسة، فإننا لا نبحث عن الحقيقة في الخطاب السياسي ذاته، بل في ما يتهرّب منه الخطاب، لأن السياسي لا يقول ليكشف، بل ليحجب، فخطابه ليس جسرًا بين الفعل والمعنى، بل حجابًا لغويًّا يحوّل العجز إلى بلاغة، ومن ثم فإنّ كلّ تحليل سياسي جاد في السياق المغربي ينبغي أن يتجاوز ظاهر الخطابات، ليغوص في أعماقها بوصفها تعبيرات رمزية عن موازين القوى ومكر السلطة. لهذا فإن عبارة “طْحَنْ لُورَاقْ” لو سلمنا بصدق نية السياسي، فإنها إلى جانب الكثير من العبارات المتشابهة والتي غزت الحقل السياسي في السنوات الأخيرة مع ارتفاع منسوب الشعبوية، كدالٍّ سياسي وتأويلي ظهرت في سياقات سياسية وإدارية مغربية، تتجاوز معناها (أي التلاعب في الملفات أو تصفية الشؤون الإدارية) لتصبح استعارة عن الممارسة السلطوية نفسها، فـ”الطحن” هنا ليس فعلًا ماديًا فحسب بل رمزي. حين يقول السياسي أو الإداري إنه “يطحن الأوراق”، فإنّه لا يعني تسريع المساطر، بل يُعلن ضمنًا أن المواطن تحوّل إلى ملفّ، والملفّ إلى ورقة، والورقة إلى غبارٍ إداريٍّ بلا روح. هكذا يتحوّل الفعل الإداري إلى طقسٍ بيروقراطي عدمي، يمحو أثر الإنسان في منظومة تستهلك المعنى باسم التنظيم، إنّ “طحن الأوراق” هو مجاز سياسي للعدمية المؤسسية، مفاده أن كلّ شيء يُعالج ليُنسى، ويُدرج ليُهمَّش، ويُحرَّر ليُدفن في الأرشيف.
هنا تتجلّى عبقرية الهيرمينوطيقا، التي يكمن دورها في كشف كيف تُنْتِجُ السلطة لغتها لتخفي عجزها، وكيف يتحوّل الفعل اللغوي إلى آليةٍ لإعادة إنتاج اللامعنى، بحيث لم تعد السلطة في السياق المغربي تُمارس بالقوة وحدها بل بالخبث اللغوي، لأن الخطاب السياسي المغربي لم يعد يُقنع بقدر ما يُربك الفهم، فالتعدد اللغوي والسياسي والمؤسساتي يخدم استراتيجية الغموض البنيوي، حيث لا يُقال كل شيء ولا يُفهم كل ما يُقال. لهذا فإن اللغة الرسمية تُسهم في إنتاج الضباب التأويلي الذي يجعل المسؤولية متحرّكة والذنب جماعيًا دائمًا.
إنّ عبارة مثل “طحن الأوراق” ليست حادثًا لغويًا عابرًا، بل نموذجًا على هذا الغموض المؤسّس خاصة ونحن نعرف المصدر السياسي والتاريخي لهذا لعبارة “طْحَنْ” التي ارتبطت في الذاكرة السياسية المغربية بفضيحة مقتل محسن فكري بمدينة الحسيمة سنة 2016م، حين ترددت عبارة “طْحَنْ مُّو” في الحادث الشهير، منذ ذلك الحدث تحولت مفردة الطحن إلى رمز للمظلومية والقهر السلطوي، وأعيد توظيفها في الخطاب السياسي والاجتماعي بعدّة صيغ، من بينها ما تم تداوله مؤخرا “طحن لوراق”، كما يُقال على سبيل المثال: “فْلاَنْ بْغَاوْ يْطَحْنُو لَوْرَاقْ دْيَالُو” بمعنى هناك محاولة لتدمير مستقبله السياسي أو الإداري والتلاعب فيه عبر الملفات، التقارير، أو الحملات الإعلامية، إذن اللغة السياسية هنا تعمل كأداة لتطبيع العبث الإداري وتبرير الفساد والركود تحت مسميات كثيرة لكنها تظل ثَاوِيَة وغير معلنه إلا كإشارات.
الشيء الذي يضع على عاتق كل المتتبعين للممارسة السياسية مهمة محاولة تفكيك هذا الخطاب وفهم أبعاده وخلفياته، وهنا فقط يمكن للهيرمينوطيقا، في معناها النقدي أن تساعدنا ليس من أجل الفهم، بل من أجل تعرية الأيديولوجيا التي تقف خلف هذا الخطاب، فقراءة عبارة “طحن الأوراق” بعيونٍ تأويلية تعني مساءلة النظام الرمزي الذي ينتجها وطرح عدة إشكالات أهمها: لماذا يختار السياسي هذا اللفظ أو ما شابهه؟ وما الذي يخفيه عن المواطن؟ وأيّ واقعٍ يُرَادُ التطبيع معه من خلال اللغة؟
الجواب ببساطة هو أنّ النظام اللغوي نفسه أداة ضبطٍ للعقل الجمعي كما أوضح ذلك بيير بورديو، فالعبارات المكرّرة والمصطلحات الإدارية الفارغة واللغة التقنية المتخشّبة مثل”الدِبْخْشِي/البيليكي/ الفراقشية..” كلّها تعمل على تفريغ السياسة من بعدها الأخلاقي والإنساني، لتحوّلها إلى إدارةٍ للزمن لا أكثر، إنها هيرمينوطيقا العدم السياسي التي تعسى إلى تكريس فهم الخطاب بوصفه تمرينًا على نسيان المعنى.
لهذا فإنّ “هيرمينوطيقا السياسيين بالمغرب” ليست مجرّد محاولة فلسفية لتأويل الكلمات، بل تشريح لآلية اشتغال السلطة داخل اللغة، وما عبارة “طْحَنْ لُورَاقْ” إلا نموذجا مكثّفا لهذا الانهيار الرمزي بعد الانهيار الأخلاقي وحتى انهيار التكوين السياسي والأكاديمي للفاعل في الحقل السياسي، حيث يُمحى الإنسان في الورق، ويُختزل الفعل السياسي في البيروقراطية، وتُصبح الإدارة مرادفًا للبطء الجميل في قتل الزمن والتحايل على انتظارات المواطن بل حتى الالتفاف عليها في انتظار تدحرج الزمن.
أمام هذا المسخ المفاهيمي والتلاعب بالألفاظ والعبارات التي تجاوزت التوصيف للسب والقذف في حق المواطن ــ خاصة المعارض لقرارات بعض السياسيين ــ في كثير من الحالات، لا بدّ من تأويلٍ مضادّ تأويلٍ يُعيد للّغة صدقها، وللعمل السياسي العامّ معناها، ذلك أنّ الخطر الحقيقي لا يكمن في “طْحَنْ لُورَاقْ”، بل في طحن الوعي ذاته تحت عجلات الخطاب بغية الالتفاف حول المطالب المشروعة.
شفيق العبودي
