ads980-90 after header
الإشهار 1

البارصا قبل غزة

الإشهار 2

البارصا قبل غزة

في غزة، حيث السماء تمطر حديدا والأرض مفروشة بالدمار والأشلاء، تتشكل ملامح الصباح برائحة البارود والدم. هناك، حيث الموت يتربص في كل زاوية، والنجاة معجزة في كل لحظة، تتجلى مفارقات الإنسانية بأبشع صورها.

في ذلك السجن المفتوح على الجحيم، يصبح البحث عن رغيف خبز مغامرة قد تكتب نهايتها بصاروخ عابر، ويتحول الظفر بقطرة ماء نظيفة إلى حلم يراود الصغار والكبار. هناك، حيث أصبحت المقابر أكثر ازدحاما من الأحياء، وصارت أصوات النحيب سيمفونية الحياة اليومية.

بينما تدك آلة الحرب أزقة غزة بلا هوادة، وتتناثر أحلام أهلها كقطع الزجاج المهشم، تنبعث في أنحاء أخرى من العالم آهات من نوع آخر، أشد غرابة وأكثر سخرية.

هنا، في عالمنا “المتحضر”، تسكب الدموع بحرقة لأن فريقا رياضيا خسر مباراة، وكأن خروج برشلونة من دوري الأبطال يوازي فقدان عائلة بأكملها تحت أنقاض منزل مقصوف! وهناك من يغرق في دوامة الاكتئاب لأن علاقة عاطفية فترت، فيتوارى خلف جدران العزلة، وكأن القدر قد أطبق عليه بمخالبه، متناسيا أن ثمة أطفالا في غزة يتوسدون أحضان الموت كل ليلة، غير متيقنين من شروق شمس الغد عليهم.

أليس هذا ضربا من العبث السريالي الذي يستعصي على التفسير؟ أن نتنافس في اقتناء آخر صيحات الهواتف الذكية، بينما يتنافس أهل غزة على الظفر بكيس طحين متعفن أو علبة دواء منتهية الصلاحية!

في غزة، تتجلى المأساة بكل تفاصيلها الموجعة. حصار محكم يخنق الحياة، ومستشفيات تحولت إلى مسالخ بشرية، وأطفال تتراقص عيونهم الذابلة بحثا عن كسرة خبز. حتى قوافل المساعدات الإنسانية لم تعد تصل إلى هناك، ولم تعد تترقبها أيدي المحتاجين، وكأن القدر يسخر من محاولات تخفيف المعاناة!

وفي الجانب الآخر من هذا الكوكب المسكون بالتناقضات، نشهد مشاهد من المسرح العبثي.
كيف نبرر لأنفسنا انشغالنا بتفاهات الحياة، بينما يصارع إخوة لنا في الإنسانية مع الموت كل لحظة؟ كيف نمنح أنفسنا الحق في التذمر من زحمة المرور، ونحن نشاهد صورا لأطفال يعبرون طرقات غزة وسط الركام والجثث المتناثرة؟

لكن الغريب حقا، والذي يثير الدهشة والإعجاب في آن، هو أن أهل غزة، رغم كل ما مروا به من أهوال تكفي لإفقاد البشرية جمعاء صوابها، لا يزالون يحتفظون بعقولهم وإنسانيتهم! ربما فقدوا منازلهم وأحبابهم وأحلامهم، لكنهم لم يفقدوا الأمل والإيمان والقدرة على الصمود. إنهم يقفون شامخين وسط الخراب، يواجهون الموت بابتسامة، ويستقبلون كل يوم جديد بعزيمة تجعلنا نشعر بالخجل من ضعفنا وتفاهة همومنا.

إن ما يعيشه أهل غزة ليس مجرد أزمة إنسانية عابرة، بل هو محك حقيقي لضمائرنا، واختبار قاس لإنسانيتنا. إنه صفعة مدوية توقظنا من سباتنا العميق، وتذكرنا بأن الحياة أقصر وأهش مما نتصور، وأن أولوياتنا بحاجة إلى إعادة ترتيب جذرية.

ما أتفه أوهامنا وما أشد همومهم، وما أضعفنا وما أقواهم!
برعلا زكريا

ads after content
الإشهار 3
شاهد أيضا
الإشهار 4
تعليقات الزوار
جاري التحميل ...
الإشهار 5